أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 25 مايو 2017

قصة انقلاب

  قصة اليوم ليست قصة انقلاب عسكري، إنما تتشابه في بعض الجوانب مع قصص الانقلابات العسكرية التي تنطلق غالباً بالليل والناس نيام. القصة باختصار، ما قام به زميل في مهنة الكتابة والصحافة، بانقلاب على كل من وقف أمام وجهة نظر له يتبناها ولا يريد أن يتزحزح عنها قيد أنملة، رغم كل الشواهد الدالة على بطلان معتقداته وإيمانه بالرأي الذي يدافع عنه فترة من الدهر، التي تبدو أنها طالت أكثر من اللازم.
  الانقلاب الذي حدث وإن كان في مجال لا يقدم ولا يؤخر، إلا أنه نموذج حياتي واحد ضمن عشرات النماذج السلبية المتنوعة التي نلاحظها في واقع نعيشه. حيث كنا وإياه وعدد كبير من زملاء المهنة والقلم والإعلام في مجموعة "واتساب" كعادة أغلبنا مع هذا التطبيق. ويوم بعد آخر، يطرح الزميل موضوعات مستفزة، ومنها يوزع الأوصاف والاتهامات على هذا وذاك، من أفراد وجماعات وأحزاب ودول. تارة يتهم الآخرين بالخيانة، وتارة بالجهل وأخرى بعمى البصيرة وهكذا. فإن جئت تناقشه يرد باستفزاز وتوتر غريبين، جعلتا أفراد المجموعة يتحاشون الدخول معه في نقاش كي لا يتطور الأمر. إلى أن حدث قبل أيام وأعاد السيناريوهات السابقة وتوزيع الاتهامات على كثيرين بشكل غير مباشر، بسبب قضية سياسية. فدخلتُ في نقاش معه ليس لتخطئة رأيه، بل لأطلب منه سعة الصدر للرأي الآخر، فليس شرطًا أن ما يراه صحيحاً يكون كذلك عند الآخرين، والعكس صحيح، وأنه مثلما لا يجوز إجبار الناس على رأي واحد في فروع الدين مثلًا، فكيف تريدنا في أمور السياسة، حيث التغيير والتقلب المستمر؟ لكنه تمادى في الرد وبدأ يتلفظ بمصطلحات لا تليق بالموجودين في المجموعة، وانتهى الأمر على هذا.
  في اليوم التالي وكعادتي في تصفح المجموعات صباحاً، فإذ بي أجدني محظوراً من دخول المجموعة، ووجدت أنني محذوف خارجها بواسطة الزميل ! وتفاجأت أكثر حين وجدت آخرين قد تم حذفهم أيضاً، ممن كانوا لا يتفقون معه في آرائه. فعرفت أن انقلاباً تم بليل والناس نيام. وحمدت الله أن الانقلاب كان في مجموعة "واتساب" وليس في غيرها.
  الشاهد من الحديث، أن ما وقع من الزميل هو نموذج مبسط لما يدور حولنا كل يوم وعلى جميع المستويات. هذا مؤشر واضح على مدى ضيق بعض الصدور، رغم أنه ليس في اختلاف الآراء شيء يعيب، بل إن الأصل هو الاختلاف وهو الطبيعي، أو هو المطلوب أن يكون في كثير من أمور حياتنا، بما فيها الدينية من تلك التي لم يأت نص صريح واضح بشأنها. وما عدا ذلك فلا شيء في أن نختلف، لأننا في الأساس مختلفون في الأهواء والأمزجة والعقليات.
  مشكلة البعض في هذا الأمر، تجدها كامنة في فكرة قبول الرأي المخالف. تجده لا يستسيغ قبول الآخر بل ربما لا يتصور ذلك. والسبب في رأيي - كما أسلفت - هو ضيق الصدر وقصر النظر. هذا إضافة إلى ثقافة الإلغاء أو الإقصاء التي يكون قد نشأ عليها أو تعلمها أو مر بها في تجربة حياتية قاسية، دفعته إلى إحيائها من جديد ولكن مع الغير، ليجد في التجربة نوعًا من التنفيس عما بنفسه من مخزونات الماضي، أو رغبة في إكمال عقدة نقص يكون مبتلى بها ولا تزال شديدة التأثير عليه، وبالتالي لا يجد طريقة مناسبة - حسب اعتقاده - سوى تطبيق فكرة الإلغاء أو الإقصاء أو قهر المخالف، طريقة مناسبة للشعور بالارتياح، واستشعار قيمته أمام الغير!

  لماذا لا أقبل رأي غيري؟ ولماذا أفترض أنني على صواب دائمًا؟ ولماذا أفترض في الآخرين ما قد لا يكون صحيحًا البتة؟ بل حتى لو كان الصواب والحق معي بالفعل وبشهادة آخرين، فإن هذا لا يمنع أبدًا من أستمع إلى الغير، فلعل في هذا الرأي المضاد ما يفيدني في حياتي بشكل عام. لماذا لا يتسع صدري وأنظر إلى احتمالية وجود نسبة ولو ضئيلة من الصواب في الرأي المخالف؟ ولماذا لا أستفيد من هذه النسبة الضئيلة بدلاً من التركيز على النسبة الكبيرة الخاطئة، فإن إيقاد شمعة أفضل من لعن الظلام، كما يقول المثل الصيني.
  حين يظل المرء متمسكًا برأيه ومعتقدًا صوابه وصحته وبطلان رأي غيره، فإنما هو يقود نفسه إلى مرض نفسي أولاً ومن ثم يتبعه مرض عضوي آخر. فهذا الإنسان يكون في حال عدم استقرار وتوتر مستمرين، ولا يُشغل عقله سوى كيفية إثبات صحة رأيه وتخطئة آراء الآخرين، الأمر الذي يجعله لا يرى الصواب بعد حين من الدهر قصير، وبالتالي ستتكون غشاوة على بصره قبل عقله، فلا يرى سوى نفسه ويلغي الآخرين. وهذا المرض النفسي الذي يصاحبه بالضرورة قلق وتوتر، لا بد وأن يتبعه أمراض عضوية أخرى كما ذكرنا من تلك المنتشرة اليوم ويتحدث عنها الأطباء، كالقرحة وارتفاع الضغط والسكر وغيرها.
  خلاصة الحديث أن الإلغاء مرفوض في جدالنا الحياتي المتنوع. والبديل الطبيعي المنطقي هو الحوار. إنه الأداة الأسلم والأصوب لتجنب كثير من المشكلات الناجمة عن ثقافة الإقصاء أو الإلغاء. ومن هنا لابد لثقافة الحوار أن تسود مؤسساتنا كافة، انطلاقاً من دين رباني حنيـف يدعـو إلـى قيمة الجـدال بالتي هي أحســن، فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ، كأنه ولي حميم.
  إنها دعوة لتوسعة الآفاق والصدور لأجل قبول الرأي الآخر، لا لشيء سوى إظهار الحق لا غيره، ولأجل حياة هادئة خالية من التوترات والمنغصات وما أكثرها حولنا. وهذا التفاهم أراه ليس إلا نوعاً من الحكمة التي قلما تجدها في الناس.
 إنها إذن دعوة للحكمة، التي هي ضالة المؤمن، أنّى وجدها أخذ بها.


ليست هناك تعليقات: