أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 22 يونيو 2017

الحصار على قطر.. كيف نستثمره ؟

  مضى شهر كامل منذ كذبة سكاي نيوز أبو ظبي، ونشر تصريحات مفبركة كاذبة، التي على إثرها اندلعت أزمة خليجية تحولت سريعاً إلى مسألة دولية. وخلال هذا الشهر قرأنا وشاهدنا وتابعنا مشاهد متنوعة من التضليل والدجل الإعلامي على وجه الخصوص من جانب المعسكر المحاصر لقطر، حتى وصلت تلك المشاهد لتكون وجبة من الفكاهة اليومية ننتظرها فجر كل يوم، على اعتبار أن غالبية المشاهد الساخنة كان إنتاجها يتم ليلًا والناس نيام!
   لقد تابعنا الكم الكبير من الأوراق التي تم حرقها خلال هذا الشهر. فقد رأينا كيف الأوراق الدينية احترقت وانكشفت، ثم الأوراق السياسية والرياضية ثم تبعتها الفنية ومن قبلها جميعًا الإعلامية.. فقد انكشف كثيرون وسقطت أقنعة عن أناس اعتقدنا فيهم الكثير من الصلاح أو الحكمة أو الطيبة، ولكن ما إن سقطت الأقنعة عن وجوههم، حتى بانت خفاياهم، وتلك منحة أولى من هذه المحنة. وصدق الإمام الشافعي رحمه الله حين قال: "جَزَى الله الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْر...عَرَفتُ بها عَدُوّي مِنْ صَديقي".
 محنة الحصار وإن لم نشعر به نحن المواطنين وأيضا المقيمين معنا في هذا البلد الطيب ولله الحمد، إلا أنه حصار له آثاره النفسية والاجتماعية والاقتصادية على المدى البعيد. لكن الدروس والعبر غالبًا تكون في مثل هذه الشدائد والأزمات، وما لم يتعظ ويستفد المرء من دروس الأزمات، فإنه إلى عدم الاتعاظ والاستفادة في وقت الرخاء والسلم أبعد. 

استفادت قطر من تجربة عام 2014 وأزمة سحب السفراء، فرأت احتمالات مثل هذا الحاصل الآن مبكرًا، فاتخذت التدابير اللازمة لمواجهته، فكان التخزين الإستراتيجي للسلع الأساسية سواء بالداخل أو الخارج، وتم التدريب على السفر جوًا في مسارات جديدة، وأنشأت ميناءً دوليًا ضخمًا يرتبط بالعالم دون الحاجة إلىموانئ الجوار، إضافة إلى عقد التحالفات الدفاعية مع قوى ذات وزن، أهمها الدولة التركية عبر تحالف عسكري. وبتلك الخطوات والاحتياطات تم الاستعداد لسيناريو شبيه بالحصار المفروض علينا الآن. ولعل هذه الاحتياطات المدروسة هي التي جعلتنا حكومة وشعبًا نمتص الصدمة سريعًا ونتكيف مع الظروف وبهدوء ملحوظ يشهد له العالم.

 كل تلك الاستعدادات الإستراتيجية لا تمنع من التفاكر مجددًا، والعمل لما بعد الخروج من هذه الأزمة بإذن الله. وأحسبُ أن عملًا كبيرًا ينتظرنا جميعًا بعد انكشاف هذه الغمة عما قريب بإذن الله. فعلى المستوى السياسي لابد من استثمار قوى كبيرة والدخول معها في أحلاف ومعاهدات مشتركة، سواء من القريب أو البعيد، وسواء كانت معاهدات عسكرية أو اقتصادية أو قانونية وغيرها.
أضف إلى ذلك أهمية إعادة التفكير في دعم سفاراتنا بالخارج بكوادر وطنية في مجال الإعلام والثقافة والقانون وغيرها من مجالات. فالسفارات لابد أن تتكون من فرق كاملة تدعم السفير. الحاجة صارت ماسة لوجود ملحق عسكري، ثقافي، إعلامي، اقتصادي وقانوني. هذا الفريق مهمته الأساسية كسب شعب وحكومة كل دولة بها سفارة لقطر. إن مثل هذه العلاقات التي تُبنى بهدوء ووفق خطة إستراتيجية، من شأنها أن تظهر أهميتها وفائدتها وقت الأزمات والملمات..  وقد كسبنا من هذا الحصار المغرب العربي، حكومات وشعوبا، وهذا الوزن الجغرافي الإستراتيجي له أهميته بعد قليل من الوقت. أضف إلى هذا الثقل المغاربي الذي كسبناه فيما خسره المحاصرون لنا، كسبنا شعوبًا هنا وهناك، الأمر الذي يدفعنا إلى أهمية استمرار الوقوف مع الشعوب العربية والمسلمة والصديقة في السلم والحرب، فإن الشعوب لها تأثيرها الساحر على حكوماتها وعلى الرأي العام العالمي، وهذه قوة لابد من التخطيط العلمي الواعي في كيفية استثمارها. 
  من الأمور المهمة التي لابد من استثمارها والعمل عليها لمثل هذه الأوقات، الاكتفاء الذاتي من الطعام والشراب. فنحن دولة صغيرة ذات سكان محدودين مقارنة بما حولنا، وبالتالي يدفعنا ويشجعنا هذا إلى دعم الصناعة والزراعة المحلية والتشجيع على ذلك. ومن ناحية أخرى يتم التخطيط والعمل على خوض إستراتيجي في مجال الصناعة والزراعة ولكن في مناطق خارج البلاد، بحيث يعمل الداخل مع الخارج في السلم، وفي أوقات الأزمات إن تعطل الداخل، يكون الخارج هو السند والبديل. كما ظهرت أهمية الإعلام في هذه الأزمة، لاسيَّما سلاحنا الإستراتيجي الإعلامي المتمثل في شبكة الجزيرة الإعلامية. هذه الشبكة التي أظهرت الدور المؤثر الفاعل في تفكيك وزلزلة المعسكر المحاصر لنا، وإن لم تعمل بكامل طاقتها بعد، وهذا يدعو إلى أهمية الحفاظ عليها وأن تكون في كامل قواها، وألا يتسلط عليها سيف التقشف وضغط المصروفات، فهذه الشبكة كما أسلفنا، سلاح إستراتيجي لا يجب التقتير عليه ومعاملته كأي مصلحة أو وزارة حكومية عادية..

المقيمون خاصة العرب، أثبتوا وبالشواهد والأدلة أنهم مواطنون في هذه الأزمة. التعاطف بدا واضحًا عندهم، بل وصل إلى حد البقاء في البلد، يصيبهم ما يصيب أهل البلد. فكما أنهم عاشوا في أمن وسلام هذا البلد، فإنهم لن يتركوه في وقت الضيق والشدة. وهذا ما يدعو إلى تقدير اليد العاملة العربية وأهمية تعزيز علاقاتهم وارتباطهم بهذا البلد وشعبه، وإزالة ما يمكن إزالته من فروقات بينهم وبين المواطنين.
  الحديث في كيفية استثمار هذه المحنة وتحويلها إلى منحة، حديث طويل ومتشعب. وما تطرقنا إليه من نقاط إنما أشبه بعصف ذهني سريع، وأحسبُ أن هناك الكثير الكثير مما يمكن التفكير فيه من وحي هذه الأزمة التي نعيشها، والتي نسأل الله أن يكشفها عنا قريباً، لاسيَّما وأن الظروف السياسية من حولنا بدأت تهب رياحها وتدفع باتجاه زوالها، وما ذلك على الله بعزيز.


الخميس، 15 يونيو 2017

حصار قطر.. سببان لا ثالث لهما

   أسبوعان منذ كذبة سكاي نيوز وبدء حفلة التشهير الإعلامي بقطر، والأمور لم تهدأ لا إعلامياً ولا سياسياً، وصارت الأزمة تشغل، ليس بال المنطقة وما حولها فحسب، بل اتسع الاهتمام والقلق ليشغل بال عواصم العالم الكبيرة، باعتبار أهمية منطقة الخليج عالمياً.

لا شك أننا في قطر أكثر من غيرنا، انصب وما زال، غالب تركيزنا على هذه الأزمة المفتعلة والمدبرة بليل بهيم حالك السواد، كسواد نفوس من قاموا بالتخطيط والتنفيذ والترويج.. نعم، كانت مفاجأة كبيرة لنا مسألة الفبركة الليلية، لكن سرعان ما تم ضبط الأمور وتفهمنا المسألة فقمنا نتعامل معها بالشكل المطلوب، حتى هبط علينا أمر ليلي آخر بقرار قطع العلاقات وفرض الحصار، في سابقة لم تعرفها دول التعاون، وأحدثت صدمة نفسية باعتبار أنها من الجوار القريبين!
  
  الصدمة لم تدم طويلاً، فقد كان هذا الفعل متوقعاً في أزمة سحب السفراء 2014. ولأنه لم يتم تنفيذه في تلك السنة، فقد كنا نتوقع في أي أزمة جديدة مفتعلة أن يتم تطبيق فعل الحصار وقد صار.. أما وقد صار وأصبح واقعاً، فإن الأمر يتطلب سياسة هادئة في التعامل معه، وحسن استغلال التشنج الواضح الذي عليه المعسكر المنقلب علينا، وأبرز مؤشرات ذلكم التشنج ما يتضح في التخبط والتسرع في التصريحات والقرارات، وافراغ كل ما في الجعبة من خطط التشهير والشيطنة، وحرق كل الأوراق من أجل لفت الأنظار عن مشروعات خفية ربما قرب وقت ظهورها، أو لفت الأنظار عن الأهم والأخطر من القضايا من تلك التي تشغل بال شعوب الدول المحاصرة لقطر، وإن كان ليس هذا هو لب موضوعنا اليوم.


 ما يهمني بصفتي مواطناً قطرياً في هذه الأزمة، ألا يحدث مزيد من الحمق والتهور في المعسكر المحاصر لقطر، فيتم اللجوء الى استخدام الساعد والسلاح في إنجاح وإنهاء الحملة المفتعلة، وإن كان الأمر ليس بالسهولة التي نتحدث عنها. لكن من قام بداية بافتعال واشعال شرارة هذه الأزمة غير السوية وغير العاقلة، لا يستبعد أي حماقات قادمة، خاصة إن تجمعت عناصر الاغترار بالقوة المادية والتهوين من الخصم، مع بطانة فاسدة وإعلام أفسد، وخبث قوى أخرى بالمنطقة، توحي للمتأزمين بالخليج أن المسألة داخلية، فيحدث ما لا يُحمد عقباه ويتكرر سيناريو استدراج وخداع العراق نحو الكويت وما جرى بعد ذلك وإلى اليوم. أما عدا ذلك، فإننا في قطر نملك من القدرة المادية والمعنوية من تلك التي تجعلنا مستمرين طويلاً في النقاش والجدال، سواء على الصعيد الإعلامي أو السياسي، وتستمر في الوقت ذاته الحياة على وتيرتها التي اعتدنا عليها بإذن الله، إلى أن يظهر الله الحق، وأينما كان الحق وظهر للجميع فلن يتردد أحد في قطر من اتباعه.. وتلك نقطة أولى.
النقطة الثانية والأهم، تكمن في أهمية استثمار هذه الأزمة فيما يعود بالنفع على الوطن والمواطن وكذلك المقيم، فإن كل يوم يمر على الأزمة، تتضح لنا فيه خفايا ونوايا، ما جعلتنا نعيد التفكير والنظر في الكثير من القضايا والأمور.

  لقد اتضح وبما لا يدع مجالاً للشك، ومن سقطات وعثرات وأخطاء المعسكر المحاصر لقطر، أن الأزمة المفتعلة ضدها لم تكن بسبب الكثير مما أثير من مزاعم واتهامات غير منطقية وواقعية من قبل الأِشقاء " التعاونيين " ومن معهم من عرب منتفعين متسلقين، كمزاعم دعم حماس أو الإخوان أو " الإرهاب " أو التدخل في الشؤون الداخلية أو التحريض وغيرها من تهم ومزاعم.. لأن الإكثار من عدد الادعاءات والمزاعم والتهم تلك، ما هو إلا من أجل التغطية على نقطتين رئيسيتين لا ثالث لهما في تقديري، وقد يتفق البعض معي أو لا يتفق، ويتمثلان في القرار السياسي والقرار الإعلامي.

   
  دول مجلس التعاون منذ استقلالها، وآلية استلام وتسليم الحكم معروفة وواحدة لا تتغير، فمن يتولى الحكم يبقى دون حراك إلى أن يأتيه اليقين، حتى وإن كان وجوده تفويت لكثير من المنافع والمصالح للبلاد، ولا يهمنا الآن هذا، فلكل دولة قرارها الخاص في هذا الأمر. لكن ما أحدثه سمو الأمير الوالد حفظه الله، أمير قطر السابق عام 1995، كان خروجاً على المألوف والآلية التقليدية المتبعة في دول المجلس، وهو مالم يعجب البعض ورآه خطراً، فكان ما كان سنة 1996 من محاولة انقلاب فاشلة في قصة طويلة وتبعات أطول.. واستمر الأمير الوالد في كسر الروتين السياسي بالمنطقة، حين قرر التنحي عن الحكم في هدوء نادر، الأمر الذي أقلق المجلس تارة أخرى!
  
  في عشرين عاماً إذن، ومجلس التعاون الخليجي لم يغير مساره التقليدي على غالب الأصعدة، وبعض أعضائه غير قادر على تغيير بعض ممارسات وآليات الإدارة السياسية في بلدانهم، أو توسيع هوامش الحريات الإعلامية، وأصبحت تنظر إلى قطر نظرة عدائية، رغم أنها لم تصل بعدُ الى الدولة المنشودة التي اكتملت فيها مؤسسات الدولة الديمقراطية، أو تعددت وتنوعت فيها مؤسسات إعلامية مستقلة تتحرك في مساحات واسعة من الحرية المنضبطة.. إذ رغم ذلك كله، ينظر بعض أعضاء التعاون الخليجي إلى قطر نظرة غير مريحة، وإن كانت خافية أغلب الوقت، لكنها كشرت عن أنيابها وأخرجت ما بنفسها منذ أن تولى الأمير الشاب دفة حكم البلاد، واعتقدت أن الفرصة مواتية لإعادة قطر إلى المربع الخليجي الأول، لا تلتفت يمنة ولا يسرة. وبدأت بمحاولة تهميش ما تم إنشاؤه خلال عقدين من الزمن عبر قائمة طويلة من المزاعم والاتهامات المرسلة في أزمة سحب السفراء عام 2014، وزادت القائمة طولاً وعرضاً فكانت المحاولة الثالثة في رمضان عام 1438 الذي لن ينساه القطريون أبداً.
  
  كان قد صاحب هذا التغيير في آلية الحكم وإدارة البلاد، قيام قطر باستثمار إعلامي مشهود وناجح على مستوى العالم والمتمثل في شبكة الجزيرة الفضائية.. صرح إعلامي عرف العالم بسببه قطر، وساهم في رفع الحجب والغطاءات والعوازل عن العقول والألباب، ورفع درجة الوعي لدى الشارع العربي الكبير وفي زمن قياسي غير معهود بالعالم العربي، الأمر الذي أحدث حراكاً أزعج مؤسسات الحكم العربية التقليدية.. وتخلص الجمهور العربي من التبعية الإعلامية للإعلام الغربي، فبعد أن كان العرب يرون بكاميرات CNN حرب الخليج الأولى ضد العراق عام 90، على سبيل المثال لا الحصر، صاروا يرون الحرب الثانية عام 2003 بعيون الجزيرة، والفرق في التغطية وتوضيح الحقائق كان مهولاً أزعج الأمريكان أكثر من العرب!
   كل هذا الضجيج من الثلاثي الخليجي إذن سببه أولاً، خروج قطر عن الوصاية والاستقلالية في بعض القرارات كما تفعل عمان، وثانياً وأخيراً بسبب الهامش المعقول من الحرية الإعلامية في هذا الصرح الإعلامي الحضاري المسمى بالجزيرة، كما الحاصل في مجلس الأمة بالكويت. أما بقية المزاعم كحماس والإخوان وإيران والتحريض الإعلامي، فالكل بالمجلس له نصيبه من كل أو بعض تلكم الملفات، وليس في مقدور أي عضو الزعم بغير ذلك، فكل عضو يتحرك وفق مصالحه أولاً وأخيراً، ونحن في قطر لا نعيب على أحد في قرارته ولا نبغي في الوقت ذاته أن نُعاب في قراراتنا، باعتبار أن هذا هو منطق الصواب والعدل.    

             

الخميس، 1 يونيو 2017

حول الحملة الإعلامية على قطر

  
حان الوقت لنضع النقاط على بعض الحروف ..    
من يتابع تطورات الأحداث في الخليج منذ أزمة سحب السفراء من قطر عام 2014 سيلاحظ على الفور أن المسألة باتت أشبه بمصارعة كسر العظام، ليس لشيء سوى رغبة في كسر شخصية قطر السياسية، التي تشكلت وتكونت خلال أكثر من عقدين كاملين من الزمن تقريباً.. تلك الشخصية المحبة للبناء والتعمير، والمساهِمة لخير الآخرين، ورأب الصدوع وحل المشكلات هنا وهناك، وبشهادة كثيرين حول العالم.

  لا شك أن الشخصية القطرية السياسية أزعجت القريب أكثر من البعيد، على الرغم من أن المجال كان مفتوحاً وما زال، لأي جار أن يبني شخصيته المميزة، مع ما ينتج عن ذلك الكثير من الفوائد لصالح منظومة التعاون، وشعوب المنطقة بصورة وأخرى.. فأن تكون في مجلس تعاوني لا يعني أن تكون نسخة كربونية من الآخرين بالمجلس. نعم نتفق على المبادئ ولكن لا يمنع أن تكون لي شخصيتي ورأيي ورؤيتي للأمور، فهكذا حال المجالس والكيانات السياسية في كل العالم.. هذه حقيقة رأيت ضرورة البدء بها.

    الحملة الإعلامية اللاأخلاقية على قطر، والتي وإن بدا زخمها يخفت ويهدأ ويتوارى منذ أن بدأت قبل أسبوع، دليل جديد مؤكد على أن الرغبة ما زالت موجودة بالتعاون الخليجي، لتكون كل الدول نسخ كربونية عن شخصية واحدة هي التي ترى وتفهم وتفكر وتقرر، ومن يخرج عن تلك النسخة سيكون معرّضاً لكل أنواع التهم.. تبدأ بتهمة إزعاج السلطات وتنتهي بالتخوين!  فما زال بعض المسئولين بالتعاون الخليجي، وإن كان بشكل غير مباشر، ومن يدور في فلكهم من إعلاميين ومثقفين ومنتفعين ومستشارين عرب وغير عرب، مستمرين في تكرار نفس الأسطوانة المشروخة عن قطر، والتي قالت قطر عنها بكل وضوح في بيان قديم متجدد لها (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).
   
   الإخوان، حماس، التدخل في الشؤون الداخلية، الجزيرة، التحريض!! هي مكونات الأسطوانة التي أصابها الشرخ من كثرة التكرار والاستعمال.. أما الإخوان، فإن كان ايواء بعض عناصرهم التي هاجرت بعد الانقلاب، خشية الاعتقال والتعذيب أو القتل، هو في عُرف أصحاب الحملة دعم للإرهاب! فكذلك ايواء شفيق ودحلان وزين العابدين وأمثالهم، يُعد في عرف الشعوب المقهورة، وليس قطر فقط، دعم صريح لإرهابيين ومجرمين هاربين من العدالة.. 

   أما حماس والانزعاج من وقوف قطر معها، فهو أمر غاية في الغرابة. ألم يقف كل الخليج منذ عقود طويلة مع منظمة التحرير الفلسطينية، حين كانت حركة مقاومة مسلحة وقدمت لها كل الدعم، بل وما زالت تقدم الدعم رغم استسلامها المهين؟ فلماذا تقدم الدعم لفصيل استسلم، وتستنكر على قطر أنها لا تزال تقف مع فصيل آخر يرفض الاستسلام ويعاني القهر والحرمان من المحتل؟  لماذا يتم استنكار هذا العمل من قطر، في حين أن قطر لم تستنكر ولم تعارض دعم بعض الخليج لمحمود عباس ومن معه في الفلك يسيرون؟ هذه رؤى سياسية قابلة للنقاش وقد تتغير مع الظروف، ولكن لا يصل الأمر أن يجبر أحدٌ الآخر على رأيه. 

   أما تدخل قطر في الشؤون الداخلية لبعض الدول الأعضاء بالتعاون الخليجي، فإنه قصة لا أريد الإسهاب فيها، لأنها زعم ووهم كبيرين، بالإضافة إلى أنه غير منطقي لاعتبارات كثيرة. فكيف يقبل المنطق والعقل أن تزعزع قطر أمن واستقرار جوارها، وهي أول من ستتأثر بعمق شديد لأي عدم استقرار وفوضى بجوارها، فإن للجغرافيا والديمغرافيا اعتبارهما ها هنا. ثم، أليس الضغط على الآخر لاتخاذ قرار ما مكرهاً ومجبراً، هو قمة التدخل في الشؤون الداخلية وانتهاك للسيادة؟ لماذا يُراد لقطر إجبارها على قرارات معينة تتعارض مع مصالحها الاستراتيجية؟ أليس هذا تدخل صريح وسافر في شؤونها الداخلية؟  لماذا لم تقل قطر أن ذلك تدخلاً في شؤونها وتعارضاً لمصالحها؟

    النقطة الأخيرة حول مزاعم التحريض، والمقصد ها هنا قناة الجزيرة، على الرغم أنها منذ فترة طويلة تتناول أخبار الخليج بشكل خجول ومحتشم جداً، ولكن تقوم بعملها بدرجة كبيرة من المهنية والحيادية قدر المستطاع، ولا يمكن مقارنتها بما عليه العربية وسكاي نيوز أبوظبي مثلاً أو الشرق الأوسط وعكاظ والرياض والخليج والاتحاد ومنابر إعلامية أخرى سعودية وإماراتية ما بين مرئية ومكتوبة، والتي تقوم حالياً بواجب التحريض والتشويه بشكل غير معهود ومسبوق في الخليج، حيث ضاعت خلالها كل مبادئ وقيم وأخلاقيات المهنة.

    لكن مع كل ذلك التحريض والتشويه في الحملة، فإن قطر لا تزال تغض الطرف عنها، إلا من بعض جهود لأفراد في وسائل التواصل والصحف الخاصة، وإن كانت بشكل فيه الكثير من الأدب والاحترام للقارئ والمشاهد، على عكس ما هو حاصل في المعسكر الثاني، الذي يتخبط يمنة ويسرة منذ أن بدأ.

   لا تريد قطر الاستجابة لاستدراجات الطرف الآخر والانزلاق في مهاترات وأكاذيب وفبركات، باعتبار أن هناك انفتاح إعلامي واسع حاصل وواقع في العالم لا يمكن تجاهله ، وأن سياسة تكميم الأفواه ومراقبة كل من هب ودب  وحجب المواقع، إنما هي بمثابة حرث في بحر لجّي، لا يُجدي نفعاً منه مهما طال الحرث وطال الزمن، فكان من الحكمة أن تواصل قطر تجاهلها لكل هذا الهجوم الاعلامي المستمر من وسائل إعلامية  سعودية وإماراتية ، أو المحسوبة عليهم أو المنتفعة من دعمهم ، تاركة الأمر للمتابع أو المشاهد والقارئ ، حيث تراهن قطر على وعي الجمهور وقدرته على تمييز الغث من السمين .. والزمن كفيل بالأمر.

  لقد بدا واضحاً لكل المتابعين والمهتمين للشأن الخليجي ومنذ البداية، أن قطر لم تأخذها الحماسة والعزة بالإثم وتواجه الحملة الإعلامية اللاأخلاقية بمثلها أو أشد، وإن كان في مقدورها أن ترد الصاع صاعين إن أرادت، ولكن ما زالت الحكمة قطرية. إذ نعتقد في قطر أن مثل هذه الخلافات في الرؤى بين الدول إن حدثت، فلا يجب أن تترك لسفهاء الإعلام وبعض المرتزقة، المحليين منهم أو غيرهم من الخارج، وإنما تُرفع إلى أهل الحكمة والرأي، من سياسيين وعلماء ومفكرين، ولا تترك لسفهاء ومرتزقة الإعلام.  
 
   لقد أراد " البعض " سواء كان بالداخل الخليجي أم خارجه، إحداث نوع من الفرقة بين الأشقاء في البيت الخليجي الواحد، الذي عُرف عنه منذ أن ظهر للوجود على شكل مجلس تعاون قبل ثلاثة عقود، أن مشاكله وخلافاته لا تظهر للعلن، بل يتم حسمها أو مواصلة التشاور بشأنها في هدوء وبعيداً عن ضجيج وأضواء الإعلام.
    
   لهذا كله، أقول بأن الحكمة مطلوبة في أوقات الأزمات والأجواء المشحونة.. وإن التعامل الهادئ مع الانفعالات غير السوية والمحسوبة، هو نهج تسير عليه دولة قطر منذ زمن، باعتبار إيجابياته الكثيرة، بل إنه النهج السليم لأن يكون أنموذجاً في كيفية تعامل الدول مع بعضها البعض، بعيداً عن لغة التهديد أو استخدام قوى الساعد والسلاح والإعلام وغيره، التي وبكل تأكيد ما تزيد غير تخسير..
 


الخميس، 25 مايو 2017

قصة انقلاب

  قصة اليوم ليست قصة انقلاب عسكري، إنما تتشابه في بعض الجوانب مع قصص الانقلابات العسكرية التي تنطلق غالباً بالليل والناس نيام. القصة باختصار، ما قام به زميل في مهنة الكتابة والصحافة، بانقلاب على كل من وقف أمام وجهة نظر له يتبناها ولا يريد أن يتزحزح عنها قيد أنملة، رغم كل الشواهد الدالة على بطلان معتقداته وإيمانه بالرأي الذي يدافع عنه فترة من الدهر، التي تبدو أنها طالت أكثر من اللازم.
  الانقلاب الذي حدث وإن كان في مجال لا يقدم ولا يؤخر، إلا أنه نموذج حياتي واحد ضمن عشرات النماذج السلبية المتنوعة التي نلاحظها في واقع نعيشه. حيث كنا وإياه وعدد كبير من زملاء المهنة والقلم والإعلام في مجموعة "واتساب" كعادة أغلبنا مع هذا التطبيق. ويوم بعد آخر، يطرح الزميل موضوعات مستفزة، ومنها يوزع الأوصاف والاتهامات على هذا وذاك، من أفراد وجماعات وأحزاب ودول. تارة يتهم الآخرين بالخيانة، وتارة بالجهل وأخرى بعمى البصيرة وهكذا. فإن جئت تناقشه يرد باستفزاز وتوتر غريبين، جعلتا أفراد المجموعة يتحاشون الدخول معه في نقاش كي لا يتطور الأمر. إلى أن حدث قبل أيام وأعاد السيناريوهات السابقة وتوزيع الاتهامات على كثيرين بشكل غير مباشر، بسبب قضية سياسية. فدخلتُ في نقاش معه ليس لتخطئة رأيه، بل لأطلب منه سعة الصدر للرأي الآخر، فليس شرطًا أن ما يراه صحيحاً يكون كذلك عند الآخرين، والعكس صحيح، وأنه مثلما لا يجوز إجبار الناس على رأي واحد في فروع الدين مثلًا، فكيف تريدنا في أمور السياسة، حيث التغيير والتقلب المستمر؟ لكنه تمادى في الرد وبدأ يتلفظ بمصطلحات لا تليق بالموجودين في المجموعة، وانتهى الأمر على هذا.
  في اليوم التالي وكعادتي في تصفح المجموعات صباحاً، فإذ بي أجدني محظوراً من دخول المجموعة، ووجدت أنني محذوف خارجها بواسطة الزميل ! وتفاجأت أكثر حين وجدت آخرين قد تم حذفهم أيضاً، ممن كانوا لا يتفقون معه في آرائه. فعرفت أن انقلاباً تم بليل والناس نيام. وحمدت الله أن الانقلاب كان في مجموعة "واتساب" وليس في غيرها.
  الشاهد من الحديث، أن ما وقع من الزميل هو نموذج مبسط لما يدور حولنا كل يوم وعلى جميع المستويات. هذا مؤشر واضح على مدى ضيق بعض الصدور، رغم أنه ليس في اختلاف الآراء شيء يعيب، بل إن الأصل هو الاختلاف وهو الطبيعي، أو هو المطلوب أن يكون في كثير من أمور حياتنا، بما فيها الدينية من تلك التي لم يأت نص صريح واضح بشأنها. وما عدا ذلك فلا شيء في أن نختلف، لأننا في الأساس مختلفون في الأهواء والأمزجة والعقليات.
  مشكلة البعض في هذا الأمر، تجدها كامنة في فكرة قبول الرأي المخالف. تجده لا يستسيغ قبول الآخر بل ربما لا يتصور ذلك. والسبب في رأيي - كما أسلفت - هو ضيق الصدر وقصر النظر. هذا إضافة إلى ثقافة الإلغاء أو الإقصاء التي يكون قد نشأ عليها أو تعلمها أو مر بها في تجربة حياتية قاسية، دفعته إلى إحيائها من جديد ولكن مع الغير، ليجد في التجربة نوعًا من التنفيس عما بنفسه من مخزونات الماضي، أو رغبة في إكمال عقدة نقص يكون مبتلى بها ولا تزال شديدة التأثير عليه، وبالتالي لا يجد طريقة مناسبة - حسب اعتقاده - سوى تطبيق فكرة الإلغاء أو الإقصاء أو قهر المخالف، طريقة مناسبة للشعور بالارتياح، واستشعار قيمته أمام الغير!

  لماذا لا أقبل رأي غيري؟ ولماذا أفترض أنني على صواب دائمًا؟ ولماذا أفترض في الآخرين ما قد لا يكون صحيحًا البتة؟ بل حتى لو كان الصواب والحق معي بالفعل وبشهادة آخرين، فإن هذا لا يمنع أبدًا من أستمع إلى الغير، فلعل في هذا الرأي المضاد ما يفيدني في حياتي بشكل عام. لماذا لا يتسع صدري وأنظر إلى احتمالية وجود نسبة ولو ضئيلة من الصواب في الرأي المخالف؟ ولماذا لا أستفيد من هذه النسبة الضئيلة بدلاً من التركيز على النسبة الكبيرة الخاطئة، فإن إيقاد شمعة أفضل من لعن الظلام، كما يقول المثل الصيني.
  حين يظل المرء متمسكًا برأيه ومعتقدًا صوابه وصحته وبطلان رأي غيره، فإنما هو يقود نفسه إلى مرض نفسي أولاً ومن ثم يتبعه مرض عضوي آخر. فهذا الإنسان يكون في حال عدم استقرار وتوتر مستمرين، ولا يُشغل عقله سوى كيفية إثبات صحة رأيه وتخطئة آراء الآخرين، الأمر الذي يجعله لا يرى الصواب بعد حين من الدهر قصير، وبالتالي ستتكون غشاوة على بصره قبل عقله، فلا يرى سوى نفسه ويلغي الآخرين. وهذا المرض النفسي الذي يصاحبه بالضرورة قلق وتوتر، لا بد وأن يتبعه أمراض عضوية أخرى كما ذكرنا من تلك المنتشرة اليوم ويتحدث عنها الأطباء، كالقرحة وارتفاع الضغط والسكر وغيرها.
  خلاصة الحديث أن الإلغاء مرفوض في جدالنا الحياتي المتنوع. والبديل الطبيعي المنطقي هو الحوار. إنه الأداة الأسلم والأصوب لتجنب كثير من المشكلات الناجمة عن ثقافة الإقصاء أو الإلغاء. ومن هنا لابد لثقافة الحوار أن تسود مؤسساتنا كافة، انطلاقاً من دين رباني حنيـف يدعـو إلـى قيمة الجـدال بالتي هي أحســن، فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ، كأنه ولي حميم.
  إنها دعوة لتوسعة الآفاق والصدور لأجل قبول الرأي الآخر، لا لشيء سوى إظهار الحق لا غيره، ولأجل حياة هادئة خالية من التوترات والمنغصات وما أكثرها حولنا. وهذا التفاهم أراه ليس إلا نوعاً من الحكمة التي قلما تجدها في الناس.
 إنها إذن دعوة للحكمة، التي هي ضالة المؤمن، أنّى وجدها أخذ بها.


الخميس، 11 مايو 2017

اتقوا المدح فإنّه الذبح !

 مما يروى عن القائد التتري تيمور لنك، أنه نظر إلى وجهه في المرآة ذات يوم، بعد أن تنعّم وتعوّد على حياة القصور والرفاهية، فانقبضت نفسه لمنظره القبيح، وأدرك أحد وزراءه المقربين ضمن حاشيته ذلك الأمر في تعبيرات وتقاسيم وجهه.. فأخذ في ممارسة دوره في المجاملة والإطراء، على عادة الحاشية والبطانة.. فقال له: إن مثلك أيها الخاقان الأعظم، لا يتحسر على فقدان جمال الوجه، وقد أعطاك الله تعالى بسطة في الجسم، وبسطة في القوة، وبسطة في الثروة والسلطان.. وإنما يتحسر ويحزن على جمال الوجوه، النساء وأشباه النساء من الرجال. فانبسطت أسارير تيمور لنك، وابتسم راضياً عما قاله الوزير - وهو يعلم أنه يجامله أو إن صح التعبير، ينافقه – ثم التفت إلى نصر الدين خوجة أو جحا، الذي كان حاضراً ساعتها، فرآه ينخرط في البكاء.. فقال له: ما خطبك يا جحا؟ أنا صاحب المصيبة تسليت، وأنت تأبى أن تتسلى! فقال جحا: معذرة يا مولاي، إن مصيبتي أكبر من مصيبتك أضعافاً مضاعفة! فأنت نظرت إلى وجهك مرة فانقبضت، فماذا أصنع أنا الذي أنظر إليك بالليل والنهار!

   لا يهمنا في هذا الحديث صراحة جحا وظرافته في الوقت نفسه، بقدر ما يهمنا الالتفات إلى ذاك الوزير المجامل أو المدّاح المنافق، الذي يعيش أمثاله - وما أكثرهم في عالم اليوم - على نفاق المسؤول ومجاملته، وأحياناً كثيرة - وهو الأسوأ - يعملون على قلب الحقائق بشكل يتماشى مع أهواء السادة المسؤولين، وبما يحقق لهم في النهاية مصالحهم المادية، التي هي أساس علاقتهم بالكبار أصحاب القرار..
   
المنافقون أو المداحون تجدهم في كل مكان وكل زمان. لا يخفون على أحد. إن صورهم واضحة معروفة، لاسيما اليوم ومن بعد أن أصبح أولئك المداحون، على دراية تامة بكيفية استغلال وسائل الإعلام المختلفة في تحقيق مكاسبهم الشخصية ومصالحهم.. ظناً منهم أن الناس لا تعي ما يقومون به من دجل وتزييف، وهم في غفلتهم هذه ماضون.

 لا شيء أن تمدح الآخرين، إن وجدت ما يستوجب المدح، لكن دون مبالغات. فقد مُدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يسمع ويرى، ومدح هو بعض الصحابة الكرام مثل أبي بكر وعمر. فقد وقف يومًا بين أصحابه، كما جاء في البخاري، فقال: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير. فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة". قال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دُعي من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " نعم وأرجو أن تكون منهم. ومدح كذلك الفاروق عمر في وجهه وقال له:" ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك".

    بالطبع حين مدح النبي الكريم بعض أصحابه وفي وجوهم، فإنما كان يعلم أن هذا المدح لن يفتنهم ولن يدفعهم إلى الاغترار بأنفسهم، وهذا هو الأمر المهم الذي ينبغي إدراكه حين يأتي أحدنا ويرغب في مدح آخرين بحق.. إنه بالقدر الذي كان يمدح النبي الكريم بعض أصحابه المستحقين للمدح، فإنه بالقدر نفسه كان حريصاً ألا ينتشر هذا الأمر، لخطورته على المادح والممدوح. فأما وجه الخطر على المادح، أنه حين يجد قبولاً من الممدوح لمديحه، وإن كان مبالغاً فيه، فقد يتجرأ بعد قليل ليواصل في هذا العمل، وخاصة إن كان من ورائه نفعاً مادياً ينتظره، فيدخل من حيث لا يدري أو يدري، عالم الكذب والنفاق والخداع وغمط الحق. وأما الممدوح فإن وجه الخطورة عنده متمثل في احتمالية وقوعه في فتنة الشعور بالزهو والفخر والترفع. ومن هنا جاء حديث " إياكم والتمادح، فإنه الذبح"، وما سمّاه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ذبحاً، إلا لأنه يميت القلب ويخرج الممدوح عن دينه، إضافة الى أن فيه ذبح للممدوح أيضاً كما أسلفنا، فيغتر بأحواله ويندفع نحو العُجب والكبر، ويرى نفسه أهلاً للمديح لا سيما إن كان ممن استهوتهم الدنيا..
  
  لذلك جاء في حديث المقداد رضي الله عنه أن رجلاً جعل يمدح عثمان رضي الله عنه، فعمد المقداد، فجثا على ركبتيه، فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب".
ولقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، عدم المبالغة في المدح إن كان الأمر يستدعي مدح إنسان لعمل أو صفة فيه، والتوجيه كان دقيقاً.. فقد مدح رجلٌ رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" ويحك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك، مراراً.. إن كان أحدكم مادحاً لا محالة – أي لابد منه - فليقل أحسبُ كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا ". فكم من المادحين من يأخذ بهذا التوجيه النبوي الدقيق حين يكيل المديح لفلان أو علان، وكم من الممدوحين من يقول في وجه المادحين: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون؟